مقطع من الفصّ الأول:   رواية فصوص التيه.

 

 

خرج. خرج كما اعتاد أن يخرج أهل مدينة ندرومة. خرج من الباب الأول. باب سيدي أحمد البجايي.صاحب أول قبة في المدينة. القبة الخضراء. الذي ينعم في الظل، بعد أن نبتت نخلتان أمام ضريحه أياما فقط بعد قتله فداء لصاحبه الأمير عبدالمؤمن بن علي، حين استقر بأرض شوران في أعالي باب تازة(*)، يتهيّأ بجيشه لدخول المغرب عن طريق مدينة تازة(*). فاضطر لتأجيل الدخول بعد أن وجد صديقه سيدي أحمد البجايي مقتولا في فراشه، وهو الذي طلب منه في تلك الليلة أن ينام مكانه. احتار الأمير في مكان دفن صاحبه. فاستشار حاشيته. فأشاروا عليه بدفنه مكان قتله، إلا عراف باب تازة فقد خالفهم الرأي، وخاطب الأمير قائلا:

ـ يا أمير المؤمنين، إنّ الأرض التي بها يُقتل أولياء اللّه، ليست أهلا لجمع عظامه والتنعم ببركاته. وإنْ سمح لي مولاي الأمير فسأكون أوّل خادم لضريحه..

تفحص الأمير وجوه حاشيته، ثم أمرهم بالإنصراف عدا العرّاف الذي حاول أن يخفي فرحته بعد أن فضله الأمير على بقية مقربيه بما فيهم مؤرخه، الذي حركته الغيرة من عرّاف بايع الأمير منذ أيام فقط، فلم يُدوّن ما حدث. قال الأمير بعد أن وضع يده على كتف العرّاف:

ـ ماذا يرى عرّاف باب تازة ؟

ـ لنا، يا مولاي، في رسول الله أسوة حسنة.

سحب الأمير يده من فوق كتف العراف، ولم يقل شيئا. رمقه بنظرة ثاقبة. أحس العرّاف بحرج، فأدخل يده اليمنى تحت عمامته الصفراء وحكّ رأسه. ثم قال، بعد أن أدرك أن الأمير ينتظر المزيد:

ـ أرى يا مولاي، أن سيدي أحمد ليس إنسانا عاديا، وعظامه فيها من الخير والبركة ما يجعل الناس تتنازع إن خرج خبر وفاته. ومكان دفنه هو تفضيل أهله عن الآخرين، وهذه الأرض من مشرقها إلى مغربها هي إمارتك، هذا ما رآه الأولياء وبشر به الصالحون في كتبهم وتأويلاتهم.

سكت العرّاف. سكت وتفحص وجه الأمير وهو يعرف جيدا أنّه أنبأه بخبر عظيم. فرأى على وجهه علامات إطمئنان ورضى. فابتسم في سريرته. ثم أضاف:

ـ نضع، يا مولاي، جثة سيدي أحمد فوق دابة وندعها تمشي، فمكان توقفها هو ما ارتضاه الله له مكانا لضريحه، وارتضى لأهل المكان نِعمه وبركاته.

تفحص الأمير وجه العرّاف. ثم تفحصه من أخمص قدميه حتى عمامته الصفراء. أحس العرّاف بالحرج، فقال ليهرب من نظرات الأمير:

ـ وأرى أن نعجّل بدفنه، قبل أن ينتشر خبر محاولة اغتيالك..

قاطع الأمير العرّاف قبل أن يكمل كلامه:     

ـ أريدك أن تعدل عن طلبك للمكوث إلى جوار سيدي أحمد، لترافقني في جهادي. ستكون مستشاري الأول. وسأعلنك حكيم الإمارة.   

لم ينتظر الأمير جوابا. صفق بيديه مرّتين. دخل الحاجب الخيمة. نظر الأمير إلى العرّاف، الذي أدرك أن عليه أن ينصرف. فاستأذن وخرج. على بعد خطوات فقط من الخيمة، التقى بالمؤرخ الذي لم يسأله عم حدث، مكتفيا بابتسامة   خفيفة بين الشفتين. فتأكد العرّاف من غيرته وحسده، فقرّر بداخله أن يشكوه يوما للأمير عن إهماله وعدم تدوينه لأحداث مهمّة في تاريخ الإمارة.  

خرج البراح، بأمر من الأمير، يدعو جميع الجند لحضور جنازة صاحب الأمير، حفظه اللّه من كل سوء، عند صلاة الظهر. كما خرج بضعة رجال من الحاشية لدعوة علماء وفقهاء القبائل المجاورة التي قدمت الولاء وبايعت الأمير. في الوقت الذي كان فيه قائد الحرس، خلف هضبة باب تازة، بغابة البلوط، بعيدا عن الأعين، يتلذذ بتعذيب مجموعة من المجندين، وفيهم بعض المتطوعين، محاولا كشف القاتل، الذي انتحر هروبا من أسئلة قائد الحرس، وسترا على أصحابه الذين تآمروا معه. لكن الأمير عبدالمؤمن الذي، لم يكن انتحار القاتل ليشفي غليله، أمر قائد حرسه بأسر كل رجال عشيرته، وتوثيقهم بحبال من مسد في صفّ واحد وراء نعش سيدي أحمد البجايي.    

رحلة البحث عن مكان الدفن بدأت مع صلاة الظهر. 

غاب المؤرخ عن الجنازة. تحجج، بإسهال عظيم أصابه، للأمير الذي لجأ إلى العرّاف يستفتيه في الحجّة. أدرك العرّاف أنه بلغ مقام السرّ. وأنّ الظهور في النّور قد يختفي حين شهوده. فأسرّ للأمير، وهما يسيران جنبا إلى جنب خلف النعش، أنّ المؤرخ لم يعد يدوّن أخبار الأمير والإمارة، خاصة تلك التي تصور الأمير حافظا للدين والدنيا. توقف الأمير عن السّير. نظر إلى  محدّثه  وقد أغمض عينه اليسرى وترك الأخرى مفتوحة، علامة تعجب. ثم قال وهو يشير بسبابته:

ـ هذا نبأ عظيم..بل خطير.

سكت. فتح عينه. تفحص العرّاف وقال آمرا:

ـ تبيّن ؟ْ

قال العرّاف، وقد تبسم في سريرته، دون أن ينظر إلى وجه الأمير:

ـ ليدرك مولاي الأمير أنّنا في جنازة، فإيقاف مسيرها غير جائز، وإن حدث ذلك الآن عن غير قصد، فإنّ أعدائنا  كثيرون وقد يروّجون لها بالقيل والقال.

تابع الأمير سيره. فتبعته الجنازة، بعد أن علت همهمة بين المشيّعين عن سرّ هذا التوقف. فتابع العرّاف حديثه غير مبال بما يحدث في مؤخرة الموكب :

ـ مولاي يعلم أنّي من حفظة القرآن..فليعلم أنّي لست فاسقا حتى يطلب بيانا أو برهانا..لكنّ البيان أو البرهانّ كما فكّر، سيجده عند المؤرخ نفسه، الذي إذا وصله ما حدث الآن، فسيدوّنه دون غيره..وسيجدني إن شاء الله لمن الصّادقين.

ـ أرى الحكيم متيقنا من بيانه؟

ـ لا أظن أن مولاي قد نسي أنّي عرّاف..فإن لقبني حكيما فذاك من فضله.

ـ لم أنس، ولا أريدك أن تنسى.

طال السّير. ولم تتوقف الناقة.

ساد صمت. لم تكن تُسمَع إلاّ حوافر خيول الجند والعسس.

أخذت الشمس تنحدر باتجاه جبال مرّاكش. لاحظ الأمير ذلك، فشعر بالقلق. نظر إلى العرّاف. ثم أعاد نظره إلى الشمس. كشف العرّاف قائلا:

ـ الناقة ستتوقف في البطحاء. في أرض الأسرى. وشمس مولاي ستدخل مراكش عبر جبالها. فالشمس إشارتك.

ـ و ينعم المجرمون ببركة قتيلهم ؟

ـ لا أظن ذلك. والأمر، كلّ الأمر لك.

ـ كيف ؟

ـ سيظطر أكثرهم إلى الهجرة. ومن رغب في البقاء، فلن يكون إلاّ عبدا أو أجيرا.

ـ أفصح ؟

ـ الأرض التي يُدفن بها سيدي أحمد، هي أرض اختارها اللّه لتأوي وليّا من أوليائه الصالحين..فهي ملك المسلمين.

ـ تضمُّ إلى الحبوس(*)؟

ـ هذا ما أراه..بعد أن نبني قبة.  وتكون أول قبّة في البطحاء.

ـ أراك تحنّ للمرابطين ؟

ـ ما كان لهم أن يحيوا زمنا لولا قبابهم.

ـ أما زلت تريد  البقاء إلى جوار سيدي أحمد؟

تنهد العرّاف. اختلس نظرة جانبية تفحص بها وجه الأمير، الذي بدا له هادئا. تشجع. همس:

ـ العمل يطلب المكان، والعلم يطلب المكانة.

نظر الأمير مبتسما في وجه العراف، وقال مشيرا بسبابته اليمنى:

ـ أراك تطلب العلوّيْن ؟

ـ أنتم الأعلون واللّه معكم.

ـ بصحبتي.. لك المكان والمكانة.

توقفت الناقة في أرض البطحاء، في مواجهة عين جارية. عين "بن ستّوت". ماؤها أجاج، لايسقي الزرع ولا يروي العطشى. نظر العرّاف إلى الأمير مستأذنا، فأذن له بإشارة من رأسه. اقترب من الناقة. رفع يديه إلى السماء، وكبّر ثلاثا. ثم صرخ بصوت مخنوق، وهو يمسح بطرف جلاّبته دموعا سقطت على خدّيه:

ـ هذه أرض فضّلها اللّه ..وكرّمها بسيدنا أحمد البجايي، عليها سنقيم ضريحه الطاهر..لتنعم ببركاته وكراماته بعد الأربعين.

سكت العرّاف.

امتطى الأمير حصانه الأشهب. 

ساد الصّمت.

تفحص وجوه المشيّعين والأسرى زمنا.

قال بصوت جهوري، بعد أن بسمل وكبّر وأثنى كثيرا على صاحبه سيدي أحمد، وذكر بخصاله وبصحبته الطويلة:

ـ ..لقد أودعت فيكم وليّا من أولياء اللّه، وعالما  جليلا من ورثة الأنبياء، سيرعاكم من قبره هذا، فيؤمنكم من كلّ جوع وخوف..فسلّموا له أموركم..

وقف الأب أمام قبة سيدي أحمد. لم يدخلها. سلّم. رفع يديه إلى السماء، ووعد بنذر إنْ شفي ابنه. إقامة "وعدة "(*) لإطعام فقراء المدينة. ثم تابع سيره.

بعد الغروب بقليل، دخل جبالة. قصد زاوية سيدي الجبلي. لم يجد بها أحدا. جلس أمام الضريح، ينتظر. طال انتظاره ولم يدخل عليه أحد. أخذته غفوة. فنام. مع الفجر سمع سلاما. ردّ السلام وهو لا يدري، إن هو في الحلم أمْ منه استفاق. فرأى كفّا تمسح على رأسه بسبحة تضيء. وللكفّ امتدادٌ بطول الضّريح. تجلّى خلف الكفّ شيخ في جلاّبة بيضاء. لا تظهر من ملامحه سوى عينان سوداوان. قرفص على يمين الضريح، ثم قال بصوت هادئ كأنّه يهمس لنفسه:

ـ عليه أن يلزم أصحاب الكف، وفي كفه السبحة، ولسانه لا ينطق إلا ذكرا، وصيام كل خميس..حتى يدرك مقام الستر، فأوف بالنذر.

تحسس الأب السبحة على صدره. قبض عليها بكفه. نظر إلى الشيخ, فلم يجد أحدا أمامه. أحس بجسده ينزف عرقا باردا. تدثر داخل جلابته. تمدد أمام الضريح. فغفا. سمع صوتا يشبه صوت الشيخ الذي أعطاه السبحة:

ـ افعل ما تؤمر. وسر ابنك بين يديك، فلا تكشفه.

استفقت من غفوتي.

لم أر لجسدي ظلا.

نظرت إلى السماء باحثا عن قرص الشمس. كان يرسل أشعته عمودية على رأسي. أغمضت عيني. فتحتهما. لم أر شيئا. فركتهما بيدي. سقطت أوراق أبي. التقطتها.فكت عقدة الخيط الصوفي الأحمر، الذي يحزمها. خبأت الخيط في جيبي. تفحصت الأوراق. عددتها. سبعة. هي بعدد أبواب المدينة. تذكرت حكيم جبالة.

ـ..لا تفتح إلا بعد تيه.

أتساءل بداخلي، عمن فتحها ؟ وهل دخلت مقام التيه ؟..

جاءني صوت الحكيم، كأنّه أمامي يهمس في أذني:

ـ الإشارة أمر. إيماءة. فكن فطنا..

هو الإذن إذن.

وأنا أهمّ بقراءة أوّل باب، تخيلت جدّتي أمامي، وهي تشيح بوجهها عنّي وتقول:

ـ هي سبب بلائه وتيهه.

أتردد.

فيجيئني صوت الحكيم.

أتفحص الورقة.

فيجيئني صوت جدّتي.

............................

يختلط الصوتان داخل رأسي. أحس به يزداد ثقلا. تحيرت فيما أفعل، وأنا مكاني، ساكنا لا أتحرك. أفكر في مخرج مما أنا فيه..

رفعت الورقة الأولى، وقرأت:

هذه الليلة أسمع صرختي

ضوء سبت

منذ أن تحلل في الماء والطين.

أجمع أشلاء جسدي.

أكون صيحة الميلاد.

أتحدى تمائم الفقهاء

وتحذير عسكر الكلمات.

دع عنك الكلام الحائل،

أنت الآن في فاقة العشق

وفي حضرة امرأة سرمدية.

امرأة عطرت يديها الحناء، فالتحمت الفلوق.

وارتد شعرها الطويل إلى  الخلف.

سأبحث في متاهات حلكته عن طريق ميسان

يعيد ترتيب الصور داخل صحن الذاكرة.

سبحان من صورك وسواك قدا ممشوقا.

تسافر عيناي في بعد بهائك.

واحدة تسبّح بحمد المشهد الجليل،

وتغني موالا لموسم الفتنة.

وأخرى تغوص في بحر الهذيان,

وبالحلم تكسر جداريات الحقيقة.

فيكون الصمت بلون الشفق.

هو الصّمت الشبق يسكن مسافة اللقاء.

تفتح ذراعيها لجلال الشهوة الخفية.

وثبوت بصرها يغزو صفاء طفولتي.

قالت، من المبصر ؟

واخفت عينيها بكفيها.

رائحة الحناء تعطر جوف رئتي.

وصار قلبي بوقا يسمع تيهه لقباب الفلوات.

قلت، أنا المبصر.

أنا الجاثم على جسدك.

أعلن ثوبتي من ثرثرة العشق..

قالت، أنت الخارم، تستلذ بمنع الكلام في لحظات الذوبان..

وتخبئ آهات الجرح بين الذهول والنسيان..

قرأت.

ثم قرأت.

هذا ما قاله أبي، الشيخ الحقاني، في بابه الأوّل. الفقيه الذي صار قوّالا. روى حكايته. حكاية عشق. ثم دخل مقام التيه منذ أربعين سنة. ومرّ من هنا، بساحة قناوة. أنظر إلى الزاوية. أشير لها بيدي اليمنى، مسلّما نفسي لها..

 



* باب تازة: إحدى قرى جبالة.

* تازة: مدينة مغربية.

* الحبوس: الأوقاف.

* وعدة: وليمة.